فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولم ينظر الجمهور إلى ذلك لأنه معلوم بل قسموها إلى قسمين كما يقتضيه صرائح الآيات والأخبار لاسيما هذه الآية وكون المعنى: إن تجتنبوا كبائر ما نهيتم عنه في هذه السورة من المناكح الحرام وأكل الأموال وغير ذلك مما تقدم نكفر عنكم ما كان من ارتكابها فيما سلف، ونظير ذلك من التنزيل {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] بعيد غاية البعد، ولذلك قال حجة الإسلام الغزالي: لا يليق إنكار الفرق بين الصغائر والكبائر وقد عرفتا من مدارك الشرع، نعم قد يقال لذنب واحد: كبير وصغير باعتبارين لأن الذنوب تتفاوت في ذلك باعتبار الأشخاص والأحوال، ومن هنا قال الشاعر:
لا يحقر الرجل الرفيع دقيقة ** في السهو فيها للوضيع معاذر

فكبائر الرجل الصغير صغائر ** وصغائر الرجل الكبير كبائر

قال سيدي ابن الفارض قدس سره:
ولو خطرت لي في سواك إرادة ** على خاطري سهوًا حكمت بردتي

وأشار إلى التفاوت من قال: حسنات الأبرار سيئات المقربين، هذا وقد استشكلت هذه الآية مع ما في حديث مسلم من قوله صلى الله عليه وسلم: «الصلوات الخمس مكفرة لما بينها ما اجتنبت الكبائر» ووجهه أن الصلوات إذا كفرت لم يبق ما يكفره غيرها فلم يتحقق مضمون الآية، وأجيب عنه بأجوبة أصحها على ما قاله الشهاب إن الآية والحديث بمعنى واحد لأن قوله صلى الله عليه وسلم فيه: «ما اجتنبت» إلخ دال على بيان الآية لأنه إذا لم يصل ارتكب كبيرة وأي كبيرة فتدبر {وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلًا} الجمهور على ضم الميم، وقرأ أبو جعفر ونافع بفتحها، وهو على الضم إما مصدر ومفعول {ندخلكم} محذوف أي ندخلكم الجنة إدخالًا، أو مكان منصوب على الظرف عند سيبويه، وعلى أنه مفعول به عند الأخفش، وهكذا كل مكان مختص بعد دخل فيه الخلاف، وعلى الفتح قيل: منصوب بمقدر أي ندخلكم فتدخلون مدخلًا ونصبه كما مر، وجوز كونه كقوله تعالى: {والله أَنبَتَكُمْ مّنَ الأرض نَبَاتًا} [نوح: 17] ورجح حمله على المكان لوصفه بقوله سبحانه: {كَرِيمًا} أي حسنًا، وقد جاء في القرآن العظيم وصف المكان به فقد قال سبحانه، {وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} [الشعراء: 58]. اهـ.

.قال الفخر:

إن مجرد الاجتناب عن الكبائر لا يوجب دخول الجنة، بل لابد معه من الطاعات، فالتقدير: إن أتيتم بجميع الواجبات، واجتنبتم عن جميع الكبائر كفرنا عنكم بقية السيئات وأدخلناكم الجنة، فهذا أحد ما يوجب الدخول في الجنة.
ومن المعلوم أن عدم السبب الواحد لا يوجب عدم المسبب، بل هاهنا سبب آخر هو السبب الأصلي القوي، وهو فضل الله وكرمه ورحمته، كما قال: {قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ} [يونس: 58]، والله أعلم. اهـ.

.قال ابن القيم:

وقد دل القرآن والسنة وإجماع الصحابة والتابعين بعدهم والأئمة على أن من الذنوب كبائر وصغائر، قال: الله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} وقال تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاّ اللَّمَمَ}.
وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلي رمضان، مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر».
وهذه الأعمال المكفرة لها ثلاث درجات:
إحداها: أن تقصر عن تكفير الصغائر لضعفها وضعف الإخلاص فيها، والقيام بحقوقها، بمنزلة الدواء الضعيف الذي ينقص عن مقاومة الداء كمية وكيفية.
الثانية: أن تقاوم الصغائر، ولا ترتقى إلى تكفير شيء من الكبائر.
الثالثة: أن تقوى على تكفير الصغائر، وتبقى فيها قوة تكفر بها بعض الكبائر. فتأمل هذا، فإنه يزيل عنك إشكالات كثيرة.
وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ألاّ أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله. فقال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور».
وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم: «اجتنبوا السبع الموبقات. قيل: وما هن يا رسول الله؟ قال: الإشراك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلاّ بالحق، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات».
وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم: «أنه سئل أي الذنب أكبر عند الله؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك. قيل: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك. قيل: ثم أي؟ قال: أن تزني بحليلة جارك» فأنزل الله تعالى تصديقها {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ} الآية.
واختلف الناس في الكبائر، هل لها عدد يحصرها؟ على قولين:
ثم الذين قالوا بحصرها اختلفوا في عددها، فقال عبد الله بن مسعود: هي أربعة، وقال عبد الله بن عمر هي سبعة، وقال عبد الله بن عمرو ابن العاص هي تسعة، وقال غيره هي إحدى عشرة. وقال آخر: هي سبعون.
وقال أبو طالب المكي: جمعتها من أقوال الصحابة فوجدتها أربعة في القلب، وهي: الشرك بالله، والإصرار على المعصية، والقنوط من رحمة الله، والأمن من مكر الله. وأربعة في اللسان: شهادة الزور، وقذف المحصنات، واليمين الغموس، والسحر. وثلاثة في البطن: شرب الخمر، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا. واثنتان في الفرج: وهما الزنى، واللواط. واثنان في اليدين، وهما: القتل، والسرقة. وواحدة في الرجلين، وهي الفرار من الزحف. وواحدة تتعلق بجميع الجسد، وهو عقوق الوالدين.
والذين لم يحصروها بعدد، منهم من قال: كلما نهى الله عنه في القرآن فهو كبيرة، وما نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم فهو صغيرة.
وقالت طائفة: ما اقترن بالنهي عنه وعيد من لعن أو غضب أو عقوبة فهو كبيرة، ومالم يقرن به شيء من ذلك فهو صغيرة.
وقيل: كلما رتب عليه حد في الدنيا أو وعيد في الآخرة فهو كبيرة، وما لم يرتب عليه لا هذا ولا هذا فهو صغيرة.
وقيل: كلما اتفقت الشرائع على تحريمه فهو من الكبائر، وما كان تحريمه في شريعة دون شريعة فهو صغيرة.
وقيل: كلما لعن الله أو رسوله فاعله فهو كبيرة، وقيل: كلما ذكر من أول سورة النساء إلى قوله: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ}.
والذين لم يقسموها إلى كبائر وصغائر قالوا: الذنوب كلها- بالنسبة إلى الجراءة على الله سبحانه معصيته ومخالفة أمره- كبائر، فالنظر إلى من عصى أمره. وانتهك محارمه يوجب أن تكون الذنوب كلها كبائر، وهي مستوية في هذه المفسدة، قالوا: ويوضح هذا أن الله سبحانه لا تضره الذنوب ولا يتأثر بها، فلا يكون بعضها بالنسبة إليه أكبر من بعض، فلم يبق إلاّ مجرد معصيته ومخالفته، ولا فرق في ذلك بين ذنب وذنب.
قالوا: ويدل عليه أن مفسدة الذنب إنما هي تابعة للجراءة والتوثب على حق الرب تبارك وتعالى، ولهذا لو شرب رجل خمرا أو وطئ فرجا حراما، وهو لا يعتقد تحريمه، لكان قد جمع بين الجهل وبين مفسدة ارتكاب الحرام، ولو فعل ذلك من يعتقد تحريمه لكان آتيا بأحد المفسدتين، وهو الذي يستحق العقوبة دون الأول: فدل على أن مفسدة الذنب تابعة للجراءة والتوثب.
قالوا: ويدل على هذا أن المعصية تتضمن الاستهانة بأمر المطاع ونهيه وإنتهاك حرمته، وهذا لا فرق فيه بين ذنب وذنب.
قالوا: فلا ينظر العبد إلى كبر الذنب وصغره في نفسه، ولكن ينظر إلى قدر من عصاه، وعظمته، وانتهاك حرمته بالمعصية، وهذا لا يقترن فيه الحال بين معصية ومعصية، فإن ملكا مطاعا عظيما لو أمر أحد مملوكيه أن يذهب في مهم له إلى بلد بعيد، وأمر آخر أن يذهب في شغل له إلى جانب الدار، فعصياه وخالفا أمره، لكانا في مقته والسقوط من عينه سواء.
قالوا: ولهذا كانت معصية من ترك الحج من مكة وترك الجمعة وهو جار المسجد أقبح عند الله من معصية من تركه من المكان البعيد، والواجب على هذا أكثر من الواجب على هذا، ولو كان مع رجل مائتا درهم ومنع زكاتها ومع آخر مائتا ألف ألف فمنع زكاتها لا يستويا في منع ما وجب على كل واحد منهما، ولايبعد استواؤهما في العقوبة، إذا كان كلا منهما مصرا على منع زكاة ماله، قليلا كان المال أو كثيرا. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من فوائد ابن عاشور في الآية:

قال رحمه الله:
{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ}.
اعتراض ناسب ذكره بعد ذكر ذنبين كبيرين: وهما قتل النفس، وأكل المال بالباطل، على عادة القرآن في التفنّن من أسلوب إلى أسلوب، وفي انتهاز الفرص في إلقاء التشريع عقب المواعظ وعكسه.
وقد دلّت إضافة {كبائر} إلى {ما تنهون عنه} على أنّ المنهيات قسمان: كبائر، ودونها؛ وهي التي تسمّى الصغائر، وصفا بطريق المقابلة، وقد سمّيت هنا سيّئات.
ووعد بأنّه يغفر السيّئات للذين يجتنبون كبائر المنهيات، وقال في آية النجم (32) {الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللّمم} فسمّى الكبائر فواحشَ وسمّى مقابلها اللَّمم، فثبت بذلك أنّ المعاصي عند الله قسمان: معاص كبيرة فاحشة، ومعاص دون ذلك يكثر أن يُلمّ المؤمن بها، ولذلك اختلف السلف في تعيين الكبائر.
فعن علي: هي سبع الإشراك بالله، وقتل النفس، وقذف المحصنات، وأكل مال اليتيم، والفرار يوم الزحف، والتعرّب بعد الهجرة.
واستدلّ لجميعها بما في القرآن من أدلّة جازِمِ النهي عنها.
وفي حديث البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم: «اتّقوا السبع الموبقات» فذكر التي ذكرها عليّ إلاّ أنّه جعل السحر عوض التعرّب.
وقال عبد الله بن عمر: هي تسع بزيادة الإلحاد في المسجد الحرام، وعقوق الوالدين.
وقال ابن مسعود: هي ما نُهي عنه من أول سورة النساء إلى هنا.
وعن ابن عبّاس: كلّ ما ورد عليه وعيد نار أو عذاب أو لعنة فهو كبيرة.
وعن ابن عباس: الكبائر ما نهى الله عنه في كتابه.
وأحسن ضبطِ الكبيرة قول إمام الحرمين: هي كلّ جريمة تؤذن بقلّة اكتراث مرتكبها بالدين وبضعف ديانته.
ومن السلف من قال: الذنوب كلّها سواء إن كانت عن عمد.
وعن أبي إسحاق الإسفرائيني أنّ الذنوب كلّها سواء مطلقًا، ونفَى الصغائر.
وهذان القولان واهيان لأنّ الأدلّة شاهدة بتقسيم الذنوب إلى قسمين، ولأنّ ما تشتمل عليه الذنوب من المفاسد متفاوت أيضًا، وفي الأحاديث الصحيحة إثبات نوع الكبائر وأكبر الكبائر.
ويترتّب على إثبات الكبائر والصغائر أحكام تكليفية: منها المخاطبة بتجنّب الكبيرة تجنّبا شديدًا، ومنها وجوب التوبة منها عند اقترابها، ومنها أنّ ترك الكبائر يعتبر توبة من الصغائر، ومنها سلب العدالة عن مرتكب الكبائر، ومنها نقض حكم القاضي المتلبّس بها، ومنها جواز هجران المتجاهر بها، ومنها تغيير المنكر على المتلبّس بها.